الاعتكاف *****

الإهداء

إلى مدرسي الفاضل ، رضي الله عنه ، وبالجنة أدخله ...
وإلى كل من احب وأراد أن يتفقه في الدين ...
إلى العلماء العامليـــن ، والدعاة المخلصيــن ...
إلى كل المرابطين على الحق بأرض فلسطين ...
إلى أرواح الشهداء أجمعين ...









المقدمة
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليلة ، بعثه الله رحمة للعالمين ، ومنارا للسائلين ، وهاديا للحائرين .. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه مصابيح الهدى ، وينابيع الرحمة ، والصفوة من المؤمنين الصادقين ..
أما بعد .. كتبت بحثي هذا وذلك ؛ لأني كلفت من قبل مدرسي الفاضل بكتابة أي موضوع فقي .. فالعلوم الفقهية هي أفضل العلوم وأعلاها قدرا ، وأجلها نفعا ، فاخترت الاعتكاف ومنه اعتكاف العشر الأواخر من رمضان ولأن بالاعتكاف أعظم ليلة . الليلة التي نزل بها القرآن الكريم ، الليل التي يتنزل بها جبريل "ليلة القدر" نسأل الله تعالى أن يبلغنا ليلة القدر ...

والحمد لله رب العالمين




بسم الله الرحمن الرحيم

ليلة القدر والاعتكاف
ليلة القدر

ليلة القدر أفضل ليلي السنة لقوله تعالى : {إنآ أنزلناه في ليلة القدر * ومآ أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر *} . ( القدر 1 – 3 ).
فهنيئا لكي أيتها الليلة المباركة يا من أكرمك الله تعالى بانزال القرآن فيك ، والله إنك لليلة عظيمة ، وأيضا العمل فيك ، من الصيام والصلاة والتلاوة والذكر ، خير من العمل بألف شهر .

قيامها والدعاء فيها :
1- روى البخاري ومسلم ، عن أبي هريرة : أن الني صلى الله عليه وسلم قال : (( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه )) .
2- وروى أحمد ، وابن ماجة ، والترمذي – وصححه – عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله ، أرئيت إن علمت ، أي ليلة القدر ، ما أقول فيها ؟ قال : (( قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني )) .

استحباب طلبها :
كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في طلبها في العشر الأواخر من رمضان . وتقدم ، أنه كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل وأيقظ أهله ، وشد المئزر ( أي اعتزل النساء واشتد في العبادة )
ويستحب طلبها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان :
فمن العلماء من يرى : أنها ليلة الحادي والعشرين ، ومنهم من يرى : أنها ليلة الثالث والعشري ، ومنهم من يرى : أنها ليلة الخامس والعشرين ، ومنهم من يرى : أنها ليلة السابع والعشرين ، ومنهم من ذهب إلى أنها ليلة التاسع والعشرين .
وروى أحمد – بإسناد صحيح – عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من كان متحريها فليتحرها ليلة السابع والعشرين )) .

الاعتكاف

تعريفه : في اللغة الاعتكاف لزوم الشيء وحبس النفس عليه ، خيرا كان أو شرا . قال تعالى : { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } (الأنبياء 52) . في الشرع هو اللبث في المسجد على وجه مخصوص ، والشافعية والمالكية زادوا في التعريف كلمة (النية) لأن النية عندهم ركن لا شرط .

أركانه : وأركان الاعتكاف أربعة – أولها – النية لأنها عبادة كسائر العبادات فافتقرت إلى النية – ثانيها – اللبث في المسجد قدر الطمأنينة بل لا بد من الزيادة عليها بما يسمى عكوفا وإقامة . واستحب الشافعي أن يعتكف يوما للخروج من الخلاف.وأما المسجد فلأنه المنقول عنه صلى الله عليه وسلم ، وعن أصحابه ونسائه ولقوله صلى الله عليه وسلم(( لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة)) . - ثالثها – المعتكف وشرطه الإسلام والعقل والنقاء من الحيض والنفاس والجنابة – رابعها – المعتكف فيه وشرطه المسجد لما مر ، والجامع أولى لئلا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة ، ولأن الجماعة فيه أكثر . وقد اشترط ذلك الزهري وأشار إليه الشافعي في القديم .

أقسامه : الاعتكاف ينقسم إلى مسنون وإلى واجب ، فالمسنون ما تطوع به المسلم تقربا إلى الله ، وطلبا لثوابه ، واقتداء بالرسول صلوات الله عليه وسلامه ، ويتأكد ذلك في العشر الأواخر من رمضان لما تقدم ، والاعتكاف الواجب ما أوجبه المرء على نفسه ، إما بالنذر المعلق ، مثل أن يقول : لله علي أن اعتكف كذا ، أو يقول : إن شفا الله مريضي لاعتكفن كذا ، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ((من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعص الله فلا يعصيه ))
وثبت أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : كنت نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال : (( أوف بنذرك )) . فلو نذر اعتكاف عشرة أيام فعليه الوفاء بذلك سواء نذرها متتابعة أو غير متتابعة ، وليس له حينئذ الخروج إلا لعذر .

نذر الاعتكاف في مسجد معين : من نذر في المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى وجب عليه الوفاء بنذره في المسجد الذي عينه ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا )) . أما إذا نذر الاعتكاف في غير هذه المساجد الثلاثة فلا يجب عليه الاعتكاف في المسجد الذي عينه ، وعليه أن يعتكف في أي مسجد شاء ، لأن الله تعالى لم يجعل لعبادته مكانا معينا ؛ ولأنه لا فضل لمسجد من المساجد على مسجد آخر ، إلا المساجد الثلاثة ، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة )) . وأن نذر الاعتكاف في المسجد النبوي جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام لأنه أفضل منه .

مكروهات الاعتكاف وآدابه في المذاهب الأربعة :

المالكية – قالوا مكروهات الاعتكاف كثيرة : منها أن ينقص عن عشرة أيام أو يزيد على شهر . ومنها أكله خارج المسجد بالقرب منه كرحبته وفنائه . أما إذا أكل بعيدا من المسجد فأن اعتكافه يبطل . ومنها أن لا يأخذ القادر معه في المسجد ما يكفيه من أكل أو شرب ولباس . ومنها ذخوله منزله القريب من المسجد لحاجة لا بد منها إذا لم يكن بذلك المنزل زوجته أو أمته لئلا يشتغل بهما عن الاعتكاف ، فأن كان منزله بعيدا من المسجد بطل اعتكافه بالخروج إليه . ومنها الاشتغال حال الاعتكاف بعلم العلم أو تعليمه لأن المفصود من الاعتكاف رياضة النفس وذلك يحصل غالبا بالذكر والصلاة ويستثنى من ذلك العلم العيني فلا يكره الاشتغال به حال الاعتكاف . ومنها الاشتغال بالكتابة إن كانت كثيرة ولم يكن مضطر لها لتحصيل قوته وإلا فلا كراهة . ومنها اشتغاله بغير الصلاة والذكر وقراءة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك كعيادة المريض بالمسجد وصلاة على جنازة به . ومنها صعوده منارة أو سطحا للأذان . ومنها اعتكاف ما ليس عنه ما يكفيه .
وأما آدابه : فمنها ما يستصحب ثوبا غير الذي عليه لأنه ربما أحتاج له . ومنها مكثه في مسجد اعتكافه ليلة العيد إذا اتصل اعتكافه بها ليخرج من المسجد إلى مصلى العيد فتصل عبادة بعبادة . ومنها مكثه بمؤخر المسجد ليبعد عمن يشغله بالكلام معه . ومنها إيقاعه برمضان . ومنها أن يكون في العشر الأواخر منه لالتماس ليلة القدر فإنها تغلب فيها . ومنها أن لا ينقص اعتكافه عنه عشرة أيام .

الحنفية – قالوا يكره تحريما فيه أمور : منها الصمت إذا اعتقد أنه قربة . أما إذا لم يعتقده كذلك فلا يكره والصمت عن معاصي اللسان من أعظم العبادات . ومنها إحضار سلعة للبيع في المسجد . أما عقد البيع لما يحتاجه لنفسه أو لعياله بدون إحظار السلعة فجائز بخلاف عقد التجارة فأنه لا يجوز
وأما آدابه : فمنها أن لا يتكلم إلا بخير وأن يختار أفضل المساجد وهي المسجد الحرام ، ثم المسجد الحرام النبوي ، ثم المسجد الأقصى لمن كان مقيما هناك ، ثم المسجد الجامع ويلازم التلاوة والحديث والعلم وتدريسه ونحو ذلك .

الشافعية – قالوا من مكروهات الاعتكاف الحجامة والفصد إذا أمن تلوث المسجد وإلا حرام . ومنها الإكثار من العمل بصناعته في المسجد . وأما إذا لم يكثر ذلك فلا يكره فمن خاط أو نسج خوصا قليلا فلا يكره .
وأما آدابه : فمنها أن يشتغل بطاعته تعالى كتلاوة القرآن والحديث والذكر والعلم ؛ لأن ذلك طاعه . ويسن الصيام وأن يكون في المسجد الجامع وأفضل المساجد لذلك المسجد الحرام ، ثم المسجد النبوي ، ثم المسجد الأقصى . وأن لا يتكلم إلا بخير فلا يشتم ولا ينطق بلغو الكلام .

الحنابلة – قالوا يكره للمعتكف الصمت إلى الليل وإذا نذر ذلك لم يجب عليه الوفاء به .
وأما آدابه : فمنها أن يشتغل وقته بطاعة الله تعالى كقراءة القراءة والذكر والصلاة وأن يجتنب ما لا يعنيه .

ما يبطل الاعتكاف : يبطل الاعتكاف بفعل شيء مما يأتي :-

1- الخروج من المسجد لغير حاجة عمدا وإن قل ، فإنه يفوت المكث فيه ، وهو ركن من أركانه
2- الردة . لمنافاتها العبادة ، ولقول الله تعالى : { لئن أشركت ليحبطن عملك } .
3- ذهاب العقل بجنون أو سكر . والحيض ، والنفاس ، لفوات شرط التمييز والطهارة من الحيض والناس .
4- الوطء . لقول الله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها } . (البقرة 187) . ولا بأس باللمس بدون شهوة ، فقد كانت أحدى نسائه صلى الله عليه وسلم ترجله وهو معتكف ، أما القبلة واللمس بشهوة فقد قال أبو حنيفة وأحمد : قد أساء ؛ لأنه قد أتى بما يحرم عليه ، ولا يفسد اعتكافه إلا أن ينزل ، وقال مالك : يفسد اعتكافه لأنها مباشرة محرمة فتفسد كما لو أنزل . وعن الشافعي روايتان كالمذهبين . قال ابن رشيد : وسبب اختلافهم ، هل الاسم المشترك ، بين الحقيقة والمجاز له عموم أم لا وهو أحد أنواع الاسم المشترك . فمن ذهب إلى أن له عموما قال : إن المباشرة في قوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } يطلق على الجماع وعلى ما دونه ، ومن لم ير له عموما – وهو الأشهر الأكثر – قال : يدل إما على الجماع وعلى ما دون الجماع ، فإذا قلنا : إنه يدل على الجماع بإجماع ، بطل أن يدل على غير الجماع ، لأن الاسم الواحد لا يدل على الحقيقة والمجاز معا ومن أجرى الإنزال بمنزله الوقاع ، فلأنه في معناه ، ومن خالف فلأنه لا يطلق عليه الاسم حقيقة .

قضاء الاعتكاف : من شرع في الاعتكاف متطوعا ثم قطعه استحب قضاؤه وقيل : يجب .
قال الترمذي : واختلف أهل العلم في المعتكف إذا قطع اعتكافه قبل أن يتمه على ما نوى . فقال مالك : إذا انقضى اعتكافه وجب عليه القضاء ، واحتجوا بالحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، خرج من اعتكافه فاعتكف عشرا من شوال . وقال الشافعي : إن لم يكن عليه نذر اعتكاف أو شيء أوجبه على نفسه وكان متطوعا . فخرج فليس عليه قضاء ، إلا أن يحب ذلك اختيارا منه . قال الشافعي : وكل عمل لك أن لا تدخل فيه ، فإذا دخلت فيه وخرجت منه فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة . أما من نذر أن يعتكف يوما أو أياما ثم شرع فيه وأفسده وجب عليه قضاؤه متى قدر عليه باتفاق الأئمة ، فإن مات قبل أن يقضيه لا يقضى عنه . وعن أحمد : أنه يجب على وليه أن يقضي ذلك عنه . روى عبد الرزاق عن عبد الكريم بن أمية قال : سمعت عبد الله بن عبد الله بن عتبة يقول : إن أمنا ماتت وعليها اعتكاف ، فسألت ابن عباس فقال : اعتكف عنها وصم . وروى سعيد بن منصور : أن عائشة اعتكفت عن أخيها بعدما مات .
المعتكف يلزم مكانا من المسجد ، وينصب فيه الخيمة :
1- روى ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان . قال نافع : وقد أراني عبد الله بن عمر المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
2- وروي عنه أنه صلى الله عليه وسلم ، كان إذا اعتكف طرح له فراش ، أو يوضع له سرير وراء اسطوانة التوبة . (وهي اسطوانة ربط بها رجل من الصحابة نفسه حتى تاب الله عليه) .
3- وروي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم ، اعتكف في قبة تركية على سدتها قطعة حصير . ( أي بابها وإنما وضع الحصير على بابها حتى لا نظر فيه أحد ) .
الخــاتمــــــــــة

فالاعتكاف هو اللبث في المسجد للعبادة على وجه مخصوص ، وأركانه ثلاثة : المكث في المسجد ، والمسجد ، والشخص المعتكف . وزاد الشافعي ومالك (النية) . وله أقسام ، وشروط ، ومفسدات ، ومكروهات ، وآداب :
فأما أقسامه فهي اثنان : واجب وهو المنذور ، فمن نذر أن يعتكف وجب عليه الاعتكاف ؛ وسنة وهو ما عدا ذلك . وأقل مدة له لحظة زمنية .
وأما شروطه : فمنها الإسلام فلا يصح الاعتكاف من كافر . ومنها التمييز فلا يصح من مجنون ونحوه ول من صبي غير مميز . أما الصبي المميز فيصح اعتكافه . ومنها وقوعه في المسجد فلا صح في بيت ونحوه . وفي شوط المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف تفصيل المذاهب ومنها النية ، فلا يصح الاعتكاف بدونها . ومنها الطهارة من لجنابة والحيض والنفاس .
وأما مفسداته : فمنها الجماع ولو بدون إنزال سواء كان عمدا أو نسيا ليلا أو نهارا . أما دواعي الجماع من تقبيل بشهوة ومباشرة ونحوها فإنها لا تفسد الاعتكاف إلا بإنزال ، ولكن يحرم على المعتكف أن يفعل ذلك بشهوة . ولا يفسده إنزال المني بفكر أو نظر أو احتلام . ومنها الخروج من المسجد على تفصيل في المذاهب .
وأما مكروهات الاعتكاف وآدابه ، ففيها تفصيل في المذاهب .


والحمد لله رب العالمين
انتمني ان ينال اعجابكم